العرض في الرئيسةفضاء حر

ارشيف الذاكرة .. أحداث يناير 1986 .. تعذيب .. وانتصار ضمير

يمنات

أحمد سيف حاشد

  • في يوم 18 يناير 1986شاهدت معتقلين يجرونهم إلى غرفة التحقيق .. عرفت للوهلة الأولى من لهجتهم ولكنتهم وسحنة وجوههم أنهم مواطنين “بدو” و تحديدا من محافظتي أبين و شبوة .. كنت أسمع صراخهم المشبوب بنار الوجع و الألم المتطاير شرره في كل اتجاه..
  • شاهدت بعض المحققين يحملون عصي غليظة، يضربون بها بعض المعتقلين بقسوة تبلغ أحيانا أشدّها .. باب الغرفة مفتوحا و كذا النافذة .. تشبه غرفة الحراسة، أو ما يقيم فيها ثلة من الحرس .. يوجد في الغرفة طاولة و كراسي قليلة .. أحد المحققين بدا لي و كأنه يحاول استعرض غلاظته و فجاجته، و يزهو بما يفعله .. كنت أحوم على مقربة من المكان .. أسترق النظر المتأجج بالنار، و أعيش لحظة الألم التي تلسع الضحية كثعبان .. كان فضولي يريد أن يعرف مزيدا عمّا يحدث..؟! فيما صوت المضروبين يخترق الجدران كالقذائف، بل أشد وقعا على مسامعي..
  • كانت ولولاتهم و صراخهم تستعيد ذاكرتي إلى حكايات أمي حالما كنت طفلا عن شدة العذاب و الحساب في القبر .. كنت أسأل نفسي: هل هؤلاء المحققين بشر مثلنا..؟! إنهم يشبهون عتيد و الحساب الثقيل في المقابر .. لا يمكن أن يكون هؤلاء لأول مرة يمارسون ما يمارسونه من ضرب و إذلال و إهانة الضحايا في غرفة التحقيق، و إلا لكانوا أقل قسوة و أكثر تردد في استخدام الضرب و التعذيب..!!
  • و يزدحم رأسي بالأسئلة: ما الذي يجعل المحقق يتخلّى عن الحد الأدنى من إنسانيته، و يتحول إلى مجرم بشع دميم..؟!! لماذا يتم استخدام هذا القدر المفرط من العنف..؟! و على افتراض أن بينهم جناة، فالأكيد أيضا أن هناك أبرياء جعلتهم المصادفة أو حظهم التعيس في دائرة الاشتباه؛ فلماذا يتم ضربهم..؟!! الجميع هنا يفترض أن يكونوا مشتبهين فقط و ليس حتى متهمين .. ثم أليس القانون يمنع التعذيب و الإهانة حتى و إن كانوا جناة؛ فلماذا يحدث ما يحدث الآن..؟!!
  • و يستمر تداعي الأسئلة: هل هو الفشل و قلة الحيلة..؟!! هل هو مركب نقص مرضي يسعى المحقق لاستيفائه ليبدو كاملا..؟!! هل هي الأيديولوجيا عندما تطبق وطأتها على العقول، أو تفعل فعلها في الرؤوس الخاوية..؟! و أين..؟! و ضد من..؟! .. هل هو مرض “السادية” الذي يوغل و يتوحش في نفوس المحققين الذين يبدو أنهم باتوا فيها مدمنون..؟!! انها الأسئلة الأكثر وجاهة و إيلاما..
  • مثل هذه الأسئلة تتكاثر اليوم أيضا هنا و هناك .. سلطات الأمر الواقع و على مختلف توجهاتها و أطرافها و أماكن سيطرتها توغل بممارسة كل صنوف التعذيب، و تصل به إلى أقصاه .. تعذيب يبلغ حد القتل دون رادع أو زاجر .. تقييد حرية لا يوجد من يمنعها .. رجال سلطة جلاف و أمراء حرب مطلق لهم العنان يفعلون ما يشاؤون، و لم نسمع و نحن في السنة السادسة حرب، أن سلطة أمر واقع أحالت أحدهم إلى المحاكمة، و نالت العدالة منه جزاء و عقاب .. إذلال و امتهان كرامه، بل واستباحة عريضة للحقوق، دون أن تهتز لأحد فيهم رمش أو جفن..
  • من غير العدالة أن ننحصر في نقد الماضي و من رحلوا، دون أن نشير إلى الحاضر الأكثر بشاعة .. بين الأمس و اليوم انقلبت الأحوال رأسا على عقب .. حدث ما لم يكن يخطر على بال .. صار الجلاد ضحية، و الضحية صار جلادا أسوأ من سابقيه .. اليوم يجري استسهال التعذيب و الاعتقال و تقيد الحرية و انتهاك الحقوق و القوانين على نحو لا سابق له..
  • اليوم يتم الإيغال في التعذيب بعد تقويض شهدناه .. اتسع القبح و تم استباحة الحقوق طولا و عرضا، حتى ضاقت اليمن به، و لم يعد للعدالة ثمة متسع .. تكاثر الضحايا و تم الإيغال في التعذيب، و القتل تحت طائله و وطأته .. بات القتل خارج القانون باذخا حد العبث .. فيما السلطات التي تدّعي أنها تحمي القانون و تحرسه، باتت ترعى تلك الانتهاكات، أو تتستر عليها، و تحامي لعدم النيل من المجرمين، إن لم تكن قد صارت لسان حالهم، و كأنها قد أمنت مكر التاريخ، و باتت واثقة إن الأيام لم تعد دولا، و أن هي خاتمة الزمان..
  • و عودة إلى يناير 1986 كانت المشاهد التي رأيتها صادمة، وغير متوقعة، و ساحقة لأحلامي الكبار .. تتصادم مع مُثلي، و ما أزعم أنني أحمله من مبادئ و قيم سامية .. مهينة لآمالي العراض، و بعض قناعاتي التي كانت تجهل الكثير مما يحدث في مجاهل المعتقلات، و غرف التحقيق، و كواليس السياسية، أو ربما أكون أنا من قصّرت في فهم الحقيقة أو في البحث عنها، و اكتشاف ما يجري في الواقع من فادح و مآس و آلام .. كنت أرى الحياة بسوءها أفضل مما هي عليه .. لم أتوقع مشاهد و وقائع ما كانت تخطر على بالي يوما، و ما كنت أظن أنني سأقف عليها و أشاهدها جهارا في وضح النهار..
  • في أفضل الأحوال يمكن أن تلتمس للمحققين عذرا غير مقبول، كأن تقول كانوا يومها يبحثون عن اعترافات سريعة، ربما يحتاجونها، و كانت من الضرورة بمكان .. و لكن تراكمت لدي المشاهدة و السماع في فترات لاحقة حتى بلغت اليقين الناسف للأعذار كلها..
  • كان لوقع الضرب و العنف الذي مارسه المحققون مع بعض المعتقلين، يعيد ذاكرتي إلى فلم وثائقي لم أنساه “جرائم المخابرات المركزية الأمريكية” فلم شاهدته في سينما “دار سعد” حالما كنت أدرس الثانوية في مدرسة البروليتاريا، و هو يتحدث بالصوت و الصورة عن انتهاكات فضيعة لحقوق الإنسان طالت نشطاء و سياسيين و مقاومين لأنظمة دكتاتورية في أمريكا اللاتينية و الوسطى و المغرب العربي و غيره .. كنت و أنا أشاهد الفلم أشعر أن الموت بالنسبة للمعتقل المعذب صار أمنية بعيدة المنال .. ها أنا أشاهد تعذيب حي و بأم عيناي و إن كان دون مستواه .. أسمع صراخ التعذيب دون وسيط أو تصوير .. أما ما يحدث اليوم، فدونه حتى الجحيم..
  • في نفس المكان و اليوم تاريخ 18 يناير 1986 عرض أحد المحققين عليّ أن أشارك في التحقيق بعد أن عرف أنني أدرس في كلية الحقوق .. فرفضت عرضه، و حدثت نفسي: يا إلهي .. أيعقل هذا..!! أنا الحالم بالعدالة في الأرض كلها أصير مجرما كبيرا و عاتيا .. أنا أريد أن أكون قاضيا أو محاميا، و هذا يريد أن يحولني إلى جلاد .. يجب أن أغادر هذا المكان البشع، و أن لا أعود إليه .. وجب على ضميري أن يستريح من الوجع و تأنيب الضمير .. صراع مرير مع ضميري، و آن الآن لضميري أن يستريح..
  • ذهبت لمقابلة القيادة بمعاونة صديقي .. كانت القيادة تتمركز في مبنى البريد .. كان أحدهم يافعي يعمل مديرا لمؤسسة اقتصادية، و الأخر قيادي عسكري .. طلبت الأذن بالمغادرة، و أردت تسليم سلاحي .. كان صديقي ينتظر الموافقة ليستلم سلاحي و ذخيرتي، و بالفعل حدث هذا، وعدت إلى بيتي دون سلاح أو ذخيرة .. لم يفعلها أحد، و لم أسمع بمنتصر سلم سلاحه و عاد إلى بيته.
  • نعم في هذا اليوم 18 يناير 1986عندما كان يتجه المزايدون و النفعيون و الانتهازيون للانضمام للفريق المنتصر، كنت أنا أسلمّ سلاحي و ذخيرتي و أغادر ساحته إلى البيت .. كان عليّ أن أبدأ دورة أخرى من معاناة و مأسي المجتمع، و لكن بضمير منتصر .. و سأستعرض فيما يلي بعضها..

***

يتبع..

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.

زر الذهاب إلى الأعلى